ذكـرى خـريـف بعيـد
كان
الخريف ثم أول الشتاء وكنت أجلس كل يوم لساعات طوال غارقة في الاستماع
إلى الموسيقى بينما أعيد قراءة بعض كلاسيكيات الروايات التي عشقتها, وكعادة الخريف يأتي فيعيد تشكيل الحياة,
يكنس ضجيج الصيف وحركته المحمومة ويفتح بابا للسكينة ويصبح لهوائه الجديد رائحة
قوية وقوام وملمس يتضح من الأماسي, حيث يمكنك أن تلمسه وتمسك به بل حتي أن
ترتديه كدثار من قطيفة. في ذلك الخريف كان الوقت يتسع ويمتد أمامي كدروب تنفتح لي, قلما
يتاح لنا ذلك الشعور بالوقت حيث لا تكون مطالباً بالجري لتلحق بشيء وليس هناك
شيء سيلحق بك ليقطع استرسالك. كانت الطاولة بجوار النافذة وكانت موسيقى (رحمانينوف)
و(سبيليوس) تتناغم في الغروب مع ألوان السحب وانعكاسات احمرارها وسيولتها على
واجهات المباني البعيدة وكأنما العالم في الخارج شفافاً وبريئاً يطفو في حلم لا
نهاية له. كان بطني ممتلئاً بحمل يقرب من نهايته فكنت أضطر للابتعاد عن الطاولة
المسافة التي يحتلها هذا الامتلاء. كان حملي الأول الأكثر غموضاً ولهفة, لكن روح
الخريف كانت قد جعلتني أكف عن العد المحموم للأيام المتبقية الذي استحوذني طوال
نهارات الصيف الحارقة أو لعلني كنت أودع ـ دون أن أدري ـ بتأنٍ بالغ هذه العلاقة
السرمدية مع الوقت التي لا تتاح أبداً للأمهات,
كان
ذلك الكائن الذي أجهله تماماً يتمطى داخلي ويعبث بأطرافه فأتمنى ألا يكون الظلام
حالكاً بالداخل من حوله لأنني أنعم في الخارج بكل هذه الألوان الناعمة. الروايات التي قرأتها في ذلك الخريف
الهادئ كانت مفعمة بالأسى وكذلك الموسيقى التي كنت أستمع إليها وكان ذلك الأسى عذباً
بصورة لا تصدق. ولطالما تساءلت في ذلك الوقت عن سر هذه العذوبة وما تنفثه من سكينة
وسعادة آسرة وهل مصدرها هو الانتصار على النشيج وعبور بواباته القاتمة إلى
الاتساع الرحب للأسى المدرك الواعي الذي يمكن أن تخر أمامه معضلات الكون فتبوح بأسرارها,
أو مقاومة الإنسان وانتصاره على الألم وتحليقه فوقه واختراقه لأعمق معاني
الوجود والقبول بها. كانت هذه بعض الأفكار التي طرحها عليّ ذلك الخريف الهادئ, وبدا
أنني دون أن أبرح هذه الغرفة وفي نفس جلستي الهادئة هذه أتعلم أشياء جديدة, رحت
أسجل وأكتب وأنتظر.
سنوات
كثيرة مرت على ذلك الخريف, ولكنني لا أكف عن تذكره في كل خريف جديد
محاولة استلهام روحه أو استحضار خصوصيته, وبينما أخبر ابنتي في إحدى المناسبات عن
تلك الأيام التـــــي كنت أستــــمع فيهــا إلى نفس هـــذه الموسيقى حينما كنا أنا
وهي جسداً واحداً لم يدهشني كثيراً أن التمعت عيناها وأرهفت سمعها وبدت كمن على وشك
أن يتذكر.
آمال
الميرغني
|
الثلاثاء، 16 أبريل 2013
مـسـاحـة ود - من مجلة العربي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك 3 تعليقات:
استمتعت كثيرا بقرات احرفك
تحياتي لروحك
في منتهي الروعه.. استمتعت بقرائه هذا السرد المثير.. دمت بكل ود وحب
إرسال تعليق